الجمعة، 6 يناير 2023

كثيرا ما تسمع من أسماء ذات وزن، أن أول خطوات النهضة الحضارية لأي أمة، أو أهم علاماتها: هو الفن بكافة صوره، والحرية السياسية (الديمقراطية) وانعدام الفساد = وعليه نجد قطعانا من البشر - جمهرتهم العلمانيين وكثير من الإسلاميين الحزبيين كذلك - يكررون طوال الوقت الحديث عن أهمية تطوير الفن، بكافة صوره، وأن لا تقدُّم دون حرية سياسية وانقطاع للفساد.
في مسألة الفن هناك جذر أوروبي واضح لهذا الزعم، إذ يربط الأوروبيون التقدم الصناعي والسيطرة على العالم بنهضة فنية كبيرة عندهم. أما في ضرورة قطع الفساد، والحرية السياسية، فالجذر الأوروبي فيه أصيل، وإن كان أضعف تاريخيا، إذ لم ينقطع الفساد والاستبداد حقا عن غرب أوروبا إلا في القرن العشرين.
المهم أن أكبر وأقوى دولة في العالم طوال القرن الأخير، أمريكا، صنعت نهضتها الصناعية والزراعية العملاقة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وهو نفسه الثلث الذي كانت أمريكا فيه شديدة التخلف في الفن، والمعمار، وكان الوسط السياسي بالوعة فساد وتحالف صريح بكر مع رجال الأعمال (عصابات النهب Plunder League) التي قادها كارنيجي، وروكفلر، ومورجان، وقطاع السكك الحديدية، وهو التحالف الذي لم يتحرك رئيس ضده بقوة حتى عصر ثيودور روزفلت في مطلع القرن العشرين!
بل حتى من حيث رقي الأفكار واللبرلة، فقد كانت أمريكا حتى وصول ودورو ويلسون، يتناوبها رؤساء وزعماء أصحاب أفكار عنصرية، ولك في نقاشات ضم الفليبين في عهد الرئيس ماكينلي (1900) مثالا: إذ كانت النقاشات تدور حامية بين فريق يؤيد أداء أمريكا لدورها الحضاري، ودور الرجل الأبيض عامة، في تنظيف هذه الأجناس البربرية، وبين فريق سُمي بالمعادي للإمبريالية، منه زعماء مفوهون مثل ويليام جننغز بريان، كان من ضمن حجج رفضه ضم الفلبين الخشية على النقاء العرقي في أمريكا!
إذن نهضة عملاقة: دون فن معتبر، و لا أدب مميز، ولا أجواء اقتصادية أو سياسية عادلة أو سليمة، وبفساد حقيقي ونهب لا يتوقف، وظلم للعمال وقمع لا ينتهي، ودون حتى فكر ليبرالي حقيقي، وبمجتمع ممزق بين تبعات الحرب الأهلية، والعنصرية، والهجرات العملاقة التي لا تتوقف.
ومع كل ذلك، انتهى القرن التاسع عشر وأمريكا واحدة من أكبر أربعة دول في العالم حينئذٍ، وهي التي بدأت القرن مجرد كيان هش يعيش في شريط ساحلي ضيق في آخر العالم!
ولو كان ثمَّ عنصر حاسم حقا في نهضتها رغم كل ما سبق، لكان: الوفرة، ثم الوفرة، ثم الوفرة.. كل شيء متوفر بلا نهاية واضحة، وكل شيء يتمدد بلا حدود معينة: من الصناعة، إلى الزراعة، إلى الرعي، إلى التجارة، إلى المصارف، إلى المدن وتعداد السكان، إلى الحدود السياسية نفسها!
ثم بعد ذلك يأتي تصرف القوى الإمبريالية الغربية مع الأمريكيين طوال القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين، إذ لم يسع أحد لاستفزازها أبدا، وكانت إنجلترا تتعامل معها باعتبارها (أخ) لا يُخشى منه إطلاقا، وكانت تحابيها وتتنازل لها عن كل ما تريده بلا حساب، حتى وصل الأمر في عصر روزفلت لتصرفات سخية وسخيفة معا، تتعامل فيها إنجلترا مع أمريكا على الدوام تعامل العاشقة الثرية البلهاء، حتى في الأوقات التي كان الأمريكيون أنفسهم يستفزون الإنجليز!
أي دولة في العالم حظيت بهذه الرعاية الإنجليزية الحانية وقت نموها المخيف وصعودها المفزع لتصدر المشهد العالمي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق