الثلاثاء، 20 أغسطس 2024

التنديد بالغلاة الذين يخوضون في أعيان المسلمين، والتبكيت لفاتحي أبواب الخلافات العقدية بين المسلمين، وعرضها لسفاهات الصغار وتطاولات الحمقى واضطراب الجهال، يجب ألا يُقابل بتنازلٍ عن حقيقة أن أهل السنة، أهل الحديث، الحنابلة، أهل العقيدة السلفية - أيا كان المصطلح المستعمل مع التطورات التاريخية، وكلها مجرد مصطلحات حادثة - هم أهل العقيدة الصحيحة، وما عداهم من عقائد تتفاوت في الابتعاد عن الحق القويم - وأقربها بعيد - بعدما ابتلعت الفلسفة اليونانية للأبد بلا أمل علاج، فلا إصلاح إلا بهجرها إلى عقيدة أهل الحديث، سلف الأمة الذين نددوا بالكلام وأهله ومسائله وزخرفه.
علاج الغلو لا يكون بالتمييع، والرجل هو من يدافع عن المعتقد الصحيح وقت انحسار المد، وانقلاب الأقربين، لا من ينتفخ مجاهرا حين صعود نجمه، وينتكس متصاغرا حين أفوله!
ومن يستكثر بناس زماننا، ورؤوس علمائهم المُصدَّرين، استدلالا على الحق، إما أنوك يجهل عصرنا، أو مدلِّس يعلم ويخفي، ويهوى ويُضِّل!
إنما الحق حق وشرف ولو نص بيرقه الفرد، والباطل باطل وشين ولو هزت راياته الجموع!

الخميس، 12 يناير 2023

كما يُقال إن ضيق الحال لا يُبرِّر ربا فوائد البنوك، وأننا نتعبد بالصبر - فكذلك لابد أن يُذكَّر أن ضيق الحال لا يُبرِّر الهجرة إلى الغرب، وأننا نتعبد بالصبر كذلك.وكما شجع على الفوائد الربوية شيوخ لا تأمنونهم على دينكم، كذلك لا يحثكم على الهجرة إلى الغرب إلا شيوخ لا تأمنونهم على دينكم.
فكما جاء في الربا نهي مغلظ، جاء في الهجرة إلى أولئك نهي مغلظ.
ولا ريب أن الخبراء في الهجرة وتداعياتها على دين الزوج، والزوجة، والأبناء، وشيوع الضياع الموثَّق، أعلم بأن الهجرة أفدح على الدين والعرض وأثرها أوسع انتشارا في الأهل.

العلم والهيبة صنوان، وإن كان العلم لا يُضيِّعه قدر نصف العالم، بكبره ووهمِه؛ فهيبة العلم لا يُضيِّعها قدر العالم خوَّار القلم، مُسترخيَ اللسان.والجاهل المُشاكِس إن لم يخشَ الدليل، إذ لن يفهمه، وإن فهمه عانده؛ فيجب على الأقل أن يتهيَّب التقريع، ويتقي الذم.
وشيوع البلاهة زاد جرأة وطيش في نفسه، ومقابلة صخب جمع المُتظاهرين، بهمس قلة العارفين، إعانة للباطلين في غيِّهم، وفتنة تشكك كل مرتاب.
ومن سَطعَ بسحر أعين الجُموع، خُسِف بسحر أعين الجموع.
أما أمر السحر كله فشر كله، سواء جلب أو نبذ!
وأما العلم فأعجز من إبطال السحر وحده، بل لابد للمسحور من اجتهاد وتعلم، فإن لم يصبر عليهما، لزمه الاتباع، فإن ضاق بكل ذلك، هجر الحديث قاطبة، خير له وللناس.
والعلم علمان، علم الشيء في نفسه، ودرك سياق استعماله وتشويهه، فالعجز عن تقدير فدحِ الجُرم، ومكر السياق، أمارة ضيق أفق العالم، ومثله الإخفاق في استبصار عاقبة المآل!

السبت، 7 يناير 2023

قضيت الفترة الماضية في القراءة عن السحر في مصر القديمة.. للأسف لم أهتدِ إلى كتاب عربي كافٍ، ولعل ما قرأته في اللغات الأجنبية قدم تفسيرا بصورة ما!المصدرين الرئيسيين كانا كتاب جيرالدين بينش Magic in ancient Egypt وورقة فريدهيلم هوفمان المنشورة كفصل مستقل في كتاب كامبريدج عن تاريخ السحر الغربي [ليسا مترجمين، والصحيح ألا يترجما!]. كتاب جيرالدين خاصةً من المراجع الرئيسية للباحثين في الشيطانيات Demonology عامةً، وفي التقاطع بين هذا المجال وعلوم المصريات.
خلاصة ما عرضه الاثنان، خاصة جيرالدين بتفاصيلها المخيفة من البرديات والتمائم والعصي والتماثيل: أن السحر (حكا) كان هو الدين المصري نفسه بصورة ما، أو على الأقل جزءا لا يتجزأ منه. أكبر السحرة هم أنفسهم أكبر الكهنة وحذاقهم. وليس كل السحر المستعمل كان شرا كما يعتقد البعض: هم كانوا يستعملون السحر لجلب المنافع عامة، مثل العلاج من المس، بل وإعطاء جرعة (روحية) للعلاجات المادية نفسها، ولم يكن من المحترم أن تستعمله لجلب الشر للآخرين ما لم يكونوا أعداء الدولة والنظام.
التفاصيل مذهلة صراحة: مثل استدعاء خادم سحر، وكتابة اسم المسحور ونسبته لأمه واسم شهرته، والأحجبة والتمائم، والعصي السحرية المنقوشة بصور لشياطين، والتحذير من وقوع أسرار التعاويذ والأسرار الكبرى لغير الكهنة الكبار (السحر كان مستعملا شعبيا لكن هناك منه أصناف شديدة ومخيفة يجب ألا تُعرف وتصير لعبة بين الناس). حتى تفاصيل استدعاء الساحر للكيان الذي يمس إنسانا ما (الآخ)، أو استدعائه لخادم سحر، أو نمط التعويذة نفسه مثل (تعالوا حالا حالا)، كلها كانت موجودة معروفة عندهم.
الحقيقة لا يحسن أن يُنقل الكتاب إلى العربية. أعرف أن الموجود من كتب السحر المتداولة بين الناس مثل شمس المعارف فيه أضعاف ما في كتاب جيرالدين، الذي لم ينقل كاملا إلا مقاطع قصيرة، لكن ترجمة مقاطع التعاويذ المنقولة كاملة ليس من الحكمة.
أخيرا.. هذا جانب لم أكن أنظر إليه بجدية قبل قراءة هذه التفاصيل.. والأمر شديد فعلا وليس بالهزل. كبار كهنة المصريين القدماء كانوا على اتصال بعالم الجان، سواء خيِّر الجان، أو شريره، وهو اتصال لعله لم يتكرر أبدا بنفس هذا النطاق الواسع. ولا يعني هذا نُكرِ إنجازاتهم المادية والإدارية والسياسية عامة، كما يصنع البعض، ولا حتى ضرورة التعامل بعدائية مع كافة المصريين القدماء، كما يفعل البعض الآخر، فالمعيار الأخلاقي نفسه كان موجودا، ومن الجان خيِّرٌ وشرير كما نعتقد نحن كمسلمين.
لكن على أي حال، تناول مسألة السحر عندهم موضوع خطير، لم أعد أقتنع باستعراضه التسطيحي أو التقليل من شأنه.

الجمعة، 6 يناير 2023

من أبرز المشاكل بين الأجيال التي شاهدتها في إدارتي قناة اليوتيوب: الشكوى الدائمة عند أجيال مواليد الألفية الجديدة من (الميكروفون) و(التصوير)، مقارنة بالأجيال الأقدم.جدير بالذكر أني منذ عام ونصف أصور بكاميرا جودتها عالية HD وأسجل كذلك بميكروفون بويا أكثر الوقت. هم يطلبون (كاميرات احترافية / ولا أعرف ما هي وبحثت فازددت حيرة)، وميكروفونات معينة ضخمة (وهذه صعبة جدا للبثوث الطويلة وإصابتي بغروفي الظهر والرقبة).
المهم أني ظللت حينا في حيرة، حتى في أحسن حالات جودة الصورة والصوت أجد هذا التعليق بصورة شبه ثابتة (أي الشكوى من الصوت والصورة).
بدأت منذ أشهر متابعة (أعمار) أصحاب الشكاوى ممن يتكرر دخولهم، ثم وصلت إلى تفسير معين:
نحن (أجيال (شرائط الكاسيت) والمحاضرات المزدحمة بأصوات (خروشة الميكروفونات القديمة) وصورة تلفاز التسعينيات باهتة الألوان (إن وُجِدَت محاضرة مصورة أصلا)، لا ننظر للمواد المقدمة في اليوتيوب إطلاقا بنفس منظور الأجيال الجديدة!
وقد اختبرت ذلك أحيانا بالحديث عن الأمر فوجدت من ينصحني بعدم الرد على تلك التعليقات من الأجيال القديمة!
حينما أشاهد حلقاتي أقارنها دوما بما نشأنا عليه فأقول عجيب! الحمد لله قد وصلنا إلى مستوى عظيم! في حين يشكو بعض الجيل الجديد من نفس تلك المحاضرات باعتبارها (ذات تصوير رديء، وصوت غير واضح)!
أزمة اختلاف الأجيال هذه لها أبعاد كثيرة وستزداد ارتفاعا في السنوات القادمة.

تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية خادع، فقد تقرؤه باعتباره تاريخ (300 سنة) فقط، وهي القرون الثلاثة الأخيرة المعتبرة في تاريخها (من نصف القرن 18 - إلى ربع القرن 21)، وبالتالي تعتبر أنه سهل وبسيط، فثلاثمائة سنة في أعمار الأمم لا شيء.لكن الخدعة أن القرون الثلاثة الأخيرة في تاريخ الولايات المتحدة مدوَّنة بصورة جيدة مقارنة بغيرها (بسبب مناخ الحرية العام والهوس بالمطبوعات والتأليف)، وممتلئة بأحداث متنوعة، ونزاعات لا نهاية لها، وتمدد فكري وسياسي لا يتوقف. وعليه ستجد أمامك قدرا من التفاصيل الدقيقة لا يتوفر في أمة أخرى على الأرض، ولا أظن سجلات التاريخ وُجِدَ فيها مثل هذه الغزارة المعلوماتية لدولة معينة.
فبقدر استمتاعك وغرقك في المعرفة الفريدة، لكنك ستجد مشقة في تتبع كافة التفاصيل الممتدة في كل جهة.. والتي إن تتبعتها ستجدها تؤدي بك إلى تفاصيل أخرى، وكل حرف منها له تفاصيل وكتب عدة!
فالخدعة من جهتين: جهة التفصيل المذهل العجيب في التأريخ - وجهة حجم الدولة نفسها ومقدار التوجهات والنزاعات والحركات الدينية والسياسية والعلمانية والعلمية والعسكرية فيها، والتي كانت تضيف الجديد دوما بسبب موجات الهجرة وتمدد الدولة بل وحتى طبيعة البروتستانتية نفسها، دائمة التشقق والتوليد للمذاهب.

منذ بداية تضخُّم الاقتصاد الأمريكي وتحولها من دولة زراعية قائمة على الفلاحين (وقد كان هذا حلم الرئيس الثالث جيفرسون، أن تظل دولة فلاحين للأبد) إلى دولة مالية - صناعية (الثلث الأخير من القرن التاسع عشر)، والبلد تمر بأزمات اقتصادية دورية، تارة في عصر أزمة المزارع في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وتارة في الكساد والذعر المالي في التسعينيات، ثم عصر ضرب النقابات والشيوعية في عشرينيات القرن العشرين، ثم في الكساد الكبير بالثلاثينيات.وحتى مطلع الحرب العالمية الثانية، كان نظام روزفلت ومنظومة (الصفقة الجديدة) في ورطة وأزمة، وجاءت الحرب كطوق نجاة لأمريكا اقتصاديا، وكسر نهائي لعزلتها التي فرضتها على نفسها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
أبرز ما حدث من منظومة (ما بعد الحرب العالمية الثانية) الاقتصادية العامة والتي نعيش في ظلها إلى اليوم، هو بدء الآلة الجبارة للعولمة الاقتصادية، وتحول أمريكا إلى حاكم تلك المنظومة بأدوات نفوذ متنوعة وحيل سياسية واقتصادية واسعة، وبدعم من جيشها العملاق.
الناتج الأوضح لتلك المنظومة، بعدما اكتملت في تسعينيات القرن الماضي، أن الأزمات الاقتصادية الدورية الأمريكية -وباء النظام الرأسمالي المحض- صارت تُصدَّر إلى العالم، وندفع نحن ثمنها. أزمة عام 2008 دفع العالم ثمنا أفدح مما دفعت أمريكا، ثم أزمة هذا العام، تُظهِر أمريكا للعالم كله، وحتى أقرب حلفائها، أنها تعمل بانفراد كامل من أجل علاج تضخُّمها ومشكلاتها، بتدمير الاقتصادات حتى الأوروبية المقربة والصديقة، ودون اعتبار لأي معارضة!
المنظومة الحالية مُدمِّرة للعالم، فحتى لو مررنا مما يجري الآن، تأكد أن النظام الأمريكي سيواجه أزمات أخرى خلال سنوات، والثمن سيدفعه الناس جميعا كالمعتاد.
روسيا (أبرز متحدٍّ لهذه المنظومة بعدما فُرِضَ عليها أن تتحدى) أعجز من أن تنكِّل فيه تنكيلا بعيد المدى، فقد كانت تحتاج معها الصين على الأقل، والصينيون أعجز إلى الآن من تحدي أمريكا تحديا صفريًّا.

جمهرة الباحثين المعاصرين (ذوي التوجه الإسلامي) المتحدثين في قضايا المرأة، ويضعون للشباب السلاسل والمرئيات، يغترفون غرفا من كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، ومنهم باحثون سلفيون مشاهير، ومن لم يغترف، وافق أسسه التي قام عليها.
وكتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة هو صياغة أكثر تهذيبا (أو أشد مكرا) لأفكار محمد عبده وقاسم أمين، اللذين قادا مشروع أسلمة الموجة النسوية الأولى بقيادة صالون نازلي.
وأفكار عبده وقاسم في تلك القضية ابنة حركة الليبرالية الغربية في القرن التاسع عشر (امتداد عصر التنوير)، وخاصة جناحها النسوي، حتى إن كتاب قاسم أمين الثاني في تلك القضية (المرأة الجديدة) تكاسل (أو تجاسر) صاحبه فجعل عنوانه على عنوان أشهر موجة جابت نسويات الغرب في زمانه الذي كتبه فيه، وهي موجة (المرأة الجديدة) التي سادت تسعينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين [وقت صدور كتبه]، وفيها كان يتم دوما تصوير المرأة في الصحف جالسة كالرجال تدخن في صلف، بينما الرجل يطبخ لها الطعام وينظف الشقة [ابحث عن مصطلح New woman، ومرفق صورة من إحدى الصحف وقتها]!
فلنُعِد ترتيب أفكارنا = الداعية فلان الفلاني، المشهور في زماننا بأنه ممن يصنعون سلاسل أو مرئيات عن المرأة ودورها - ويحدث أحيانا أن يكون سلفيًّا - ينقل أركان فكره وأعمدة رؤاه من كتاب جماعة الإخوان وإنجيل النسوية الإسلامية: (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، الذي هو أصلا صياغة أوسع وأطول لكتب العلمانيين محمد عبده وقاسم أمين، والأخير منهما، الأشهر في هذا الملف، ينقل من نسوية زمانه الغربية الأوروبية.
هذا استعراض بسيط وموجز جدا لكيف تتسلل أفكار الغرب، وسفالات رواده، التي كانت أصولها علمانية ومحاداة الله --> إلى أفواه دعاة شابت لحاهم في نصرة الشرع، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
من حيث تخريب عقول الناس، فلا يُقارن أفسد نظام جمهوري بأصلح نظام ملكي!
فحينما يسرق الجمهوريون الفاسدون يوصفون بالسُّرَّاق الناهبين، وحين يتكلَّفون لأنفسهم التبرير يعرف أنصارهم قبل مبغضيهم أنهم حواة محتالون، ولا يكون لفعلهم شرعيَّة في أعين مواطنيهم أنفسهم. بينما حين يسرق الملكيون يصفون سرقاتهم بمصطلحات شرعية وقانونية ودستورية تماما كالمخصصات الملكية وغيرها، وتُبنى عقول الناس على أن هذا (حق شرعي) للملك وعائلته وسلالته كلها أحيانا!قارن مثلا جمهوري فاسد كمبارك، بملك من سلالة محمد علي كفاروق، أو كإسماعيل! إن كنت تعرف التاريخ الحقيقي - لا تاريخ صفحات الولولة على الملكية و(مصر زمان) والأحمق الذي يصف نفسه إلى اليوم بأنه ملك مصر فؤاد الثاني - لعرفت أن أسرة مبارك تبدو كصغار النشالين مقارنة بفحش أسرة محمد علي التي كأنما فُطِرَت على النهب ومص الدماء!
أما من ناحية السياسة، فيكفي لذوي العقول في بيان حقارة الملكيَّة مقارنة بالجمهورية، أن من أقوى مُثوِّرات الشعوب الجمهورية، هو غضبها وذعرها من أن تصبح بلادهم وراثية كالملكية! حتى أكثر الشعوب تعرضا للاستبداد والطغيان الجمهوري، أشد ما يثيرها هو (انحدار) أنظمتها إلى درجة التشابه مع الملكيَّة!
ومن ناحية الاستبداد السياسي، والحيل الوضيعة، والتلاعب بالشعوب والعقول والمعارضة، فالملكيَّة تكاد تقوم على هذه الأفعال السياسية كأركان للحكم! لا توجد ملكية لا تتلاعب بالمعارضة الحقيقية أو تمنعها من الأصل، أو تتسامح مع إهانة (العائلة الحاكمة) أو نقدها واتهامها، ما بالك بالسعي لإزالة منظومتها من الجذور! فإن كانت الجمهوريات المستبدة فيها هذه الأدواء، فهي في الملكيات أركان لا تقوم إلا بها!
ولو لم يكن للجمهوريات في زماننا من فضيلة سوى أنها جعلتنا لا نرى كبار رؤوس الدولة وعقولها يحنون ظهورهم في تذلل أمام صبي متعجرف مدلل سخيف، أو صبية متكبرة غير محتشمة، قانونا ودستورا، لأنهم أولياء عهد، أو أمراء، لكفى بها نعمة، لم ولن يفهمها الخانعون يوما.

 لا أعرف هل رأيتم لقاءات بعض كبار رجال عهد عبد الناصر مع هالة سرحان والجزيرة أم لا، لكنها لقاءات مدهشة جدا وثرية جدا.

هؤلاء الناس كانوا (متصالحين مع أنفسهم) تماما! يصنعون ما يصنعون من موبقات وجرائم بإيمان واطمئنان قلب عجيب!
في لقاء مع هالة سرحان، قال أحدهم بهدوء وسماحة عن استعمال المخابرات للدعارة والأفعال القذرة أن هذا عادي.. لم تكن تلك مشكلتهم أصلا مع صلاح نصر، وهذا هو عملهم!
وفي لقاء آخر أعادت فيه السؤال على محقق قضايا فساد المخابرات التي فتحت في نهاية عصر ناصر، سخر الرجل من سؤالها وقال هذا لم نحقق فيه، فدا عادي يعني! سألته مصدومة فقال لها ما يعني أن اللواتي استعملن لسن من بنات الناس حتى يغضب أحد! لا يمكن أن يستعملوا (بنات الناس)، وهذا يعيد للذهن فورا كلام حبيب العادلي أنهم متى وجدوا فتاة (بنت ناس) هتقع في مستنقع بيكلموها وينصحوها! معنى كدا إن الأجهزة عارفة إن (الوسط الفني) دا رجالته ونسوانه مش ولاد ناس ولا عالم محترمة أصلا، فعادي لما يُستخدموا في كدا، ما هما عايشين كدا! يبأه يعملوا كدا (عشان مصر)! في مذكرات اعتماد خورشيد، ذكرت أنها لما قابلت عبد الناصر بعد القبض على صلاح نصر، وحكيها له عما صنع، فوجئت بناصر يقول تعليقا يخفي احتقارا شديدا للوسط الفني!
ولما هو وسط قذر وستاتة أوساخ، ليه تمجيدهم وتصعيدهم مش هنقول القضاء عليهم؟! هذه نقرة وهذه نقرة!
في لقاءات حسين الشافعي تجد توجها آخر بصورة أظهر: التصالح مع الإيمان بالله وبالإسلام، وفي نفس الوقت اعتبار أن السياسة تقتضي كل ما يصنعونه من جرائم وموبقات! حسين الشافعي رجل يظهر تقيا في أحيان متكررة، وفي نفس الوقت متحمسا للدفاع عن أكثر أفعال نظامه من ناحية أخرى!
رجال عصر عبد الناصر مجموعة مدهشة وغريبة، وتحتاج دراسات نفسية سياسية مكثفة، فحتى الفنان تجده يحمل نفس هذا المزيج العجيب المتحمس للدين والخوف من الله ظاهرا، والممارس لأفجر الأفعال عمليا، وهي سمة ستتأصل من بعد ذلك في الوسط الفني وغيره.
ولكن يظل أكثر ما يدهشني كلما شاهدت لقاءاتهم، حتى الفنانين منهم كأم كلثوم وعبد الحليم، هو تلك الروح المتصالحة تماما مع الذات، مع وجود كل تلك الموبقات في حياتهم! حتى من عمَّر منهم ظل إلى آخر عمره يتحدث عما صنع في هدوء بينما تلمع على وجهه ابتسامة ساحرة مطمئنة!
ابتسامة راضية قد يعجز عنها بعض الأولياء والصالحين!

 وُجِدت أمم بلا أمجاد، لكن لم توجد أمة بلا مخازٍ!

 من الغرائب التي أفكر فيها منذ أيام، أن قراءتي للعقائد والأيدولوجيات الغربية صارت لها أبعاد مختلفة تماما بعد قراءتي للتاريخ الأمريكي!

وكنت قد قرأت في التاريخ الأوروبي منذ زمن، ولعله أحدث أثرا لم أنتبه له لقدمه، لكن ما صنعته قراءة التاريخ الأمريكي تحديدا في المنظور الذي أطلع به على أيدولوجيات وممارسات الغرب وأمريكا، أكبر من أن أتمكن من وصفه حاليا!
وقد جالت بخاطري هذه الأفكار، حينما كنت أعيد قراءة كتاب فكري غربي منذ أيام، قرأته - بل ذاكرته - قبلا، فكأنما ليس هو نفس الكتاب! كأنما أقرؤه للمرة الأولى! بل إني والله ساءلت نفسي: هل كنت قد فهمت هذا قبلا؟ كيف؟!
وربما أصل لاحقا لقدرة على شرح ما حدث وسببه!

معلومتان عن الوسط الفني بشكل عام، والسينمائي بشكل خاص:
1) في كل أنحاء العالم تقريبا، على الأقل الدول الكبرى في الفن (أمريكا - غرب أوروبا - مصر وتركيا والهند في الشرق - كوريا واليابان والصين)، يُعتبر هذا الوسط مجمع الفساق والسفلة وبعضهم أعداء صرحاء للأديان كلها، وجلهم أعداء للشريعة متصالحون مع فكرة دين محدد مُفصَّل على مقاسهم. الليبرالية المنحلة هي الدين الحقيقي العام.
2) الوسط الفني المصري منذ نشأته مزدحم بأراذل الناس، وخسيس النساء، وحتى في عصر المسرح، قبل التصوير السينمائي، كانت أحكام الشرع تُنتهك بانتظام في المسارح، وكانت الخلفيات موبوءة بالقاذورات الإباحية. فليس ما يحدث الآن بجديد، ولا ما حدث من ربع قرن بمستحدث. هذا هو الوسط الفني السينمائي تحديدا.

كثيرا ما تسمع من أسماء ذات وزن، أن أول خطوات النهضة الحضارية لأي أمة، أو أهم علاماتها: هو الفن بكافة صوره، والحرية السياسية (الديمقراطية) وانعدام الفساد = وعليه نجد قطعانا من البشر - جمهرتهم العلمانيين وكثير من الإسلاميين الحزبيين كذلك - يكررون طوال الوقت الحديث عن أهمية تطوير الفن، بكافة صوره، وأن لا تقدُّم دون حرية سياسية وانقطاع للفساد.
في مسألة الفن هناك جذر أوروبي واضح لهذا الزعم، إذ يربط الأوروبيون التقدم الصناعي والسيطرة على العالم بنهضة فنية كبيرة عندهم. أما في ضرورة قطع الفساد، والحرية السياسية، فالجذر الأوروبي فيه أصيل، وإن كان أضعف تاريخيا، إذ لم ينقطع الفساد والاستبداد حقا عن غرب أوروبا إلا في القرن العشرين.
المهم أن أكبر وأقوى دولة في العالم طوال القرن الأخير، أمريكا، صنعت نهضتها الصناعية والزراعية العملاقة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وهو نفسه الثلث الذي كانت أمريكا فيه شديدة التخلف في الفن، والمعمار، وكان الوسط السياسي بالوعة فساد وتحالف صريح بكر مع رجال الأعمال (عصابات النهب Plunder League) التي قادها كارنيجي، وروكفلر، ومورجان، وقطاع السكك الحديدية، وهو التحالف الذي لم يتحرك رئيس ضده بقوة حتى عصر ثيودور روزفلت في مطلع القرن العشرين!
بل حتى من حيث رقي الأفكار واللبرلة، فقد كانت أمريكا حتى وصول ودورو ويلسون، يتناوبها رؤساء وزعماء أصحاب أفكار عنصرية، ولك في نقاشات ضم الفليبين في عهد الرئيس ماكينلي (1900) مثالا: إذ كانت النقاشات تدور حامية بين فريق يؤيد أداء أمريكا لدورها الحضاري، ودور الرجل الأبيض عامة، في تنظيف هذه الأجناس البربرية، وبين فريق سُمي بالمعادي للإمبريالية، منه زعماء مفوهون مثل ويليام جننغز بريان، كان من ضمن حجج رفضه ضم الفلبين الخشية على النقاء العرقي في أمريكا!
إذن نهضة عملاقة: دون فن معتبر، و لا أدب مميز، ولا أجواء اقتصادية أو سياسية عادلة أو سليمة، وبفساد حقيقي ونهب لا يتوقف، وظلم للعمال وقمع لا ينتهي، ودون حتى فكر ليبرالي حقيقي، وبمجتمع ممزق بين تبعات الحرب الأهلية، والعنصرية، والهجرات العملاقة التي لا تتوقف.
ومع كل ذلك، انتهى القرن التاسع عشر وأمريكا واحدة من أكبر أربعة دول في العالم حينئذٍ، وهي التي بدأت القرن مجرد كيان هش يعيش في شريط ساحلي ضيق في آخر العالم!
ولو كان ثمَّ عنصر حاسم حقا في نهضتها رغم كل ما سبق، لكان: الوفرة، ثم الوفرة، ثم الوفرة.. كل شيء متوفر بلا نهاية واضحة، وكل شيء يتمدد بلا حدود معينة: من الصناعة، إلى الزراعة، إلى الرعي، إلى التجارة، إلى المصارف، إلى المدن وتعداد السكان، إلى الحدود السياسية نفسها!
ثم بعد ذلك يأتي تصرف القوى الإمبريالية الغربية مع الأمريكيين طوال القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين، إذ لم يسع أحد لاستفزازها أبدا، وكانت إنجلترا تتعامل معها باعتبارها (أخ) لا يُخشى منه إطلاقا، وكانت تحابيها وتتنازل لها عن كل ما تريده بلا حساب، حتى وصل الأمر في عصر روزفلت لتصرفات سخية وسخيفة معا، تتعامل فيها إنجلترا مع أمريكا على الدوام تعامل العاشقة الثرية البلهاء، حتى في الأوقات التي كان الأمريكيون أنفسهم يستفزون الإنجليز!
أي دولة في العالم حظيت بهذه الرعاية الإنجليزية الحانية وقت نموها المخيف وصعودها المفزع لتصدر المشهد العالمي؟

الأحد، 18 ديسمبر 2022

تصوير الكوبيين والفليبينيين في الإعلام الأمريكي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.الصورة الأولى بعنوان (أول اغتسال للفليبيني Filipino's first bath)، حينما كانت أمريكا تغزو الفليبين.
والثانية عن جنرال أمريكي يكرهه الكوبيون اسمه وود، والتعليق تحت الصورة يقول: إذا كان الكوبيون يكرهون الجنرال وود، فنحن نعلم السبب [يقصدون أنه يُنظِّف الطفل الأسود البربري القبيح، وهو كاره لذلك].






تغطية الإعلاميين السعوديين بكافة فئاتهم - من أهل القنوات الفضائية إلى رجال منصات التواصل الاجتماعي - للثورة الإيرانية الجارية حاليا، مُضحِكة جدا! لا يتحدثون إلا عن قمع حرية الرأي عند النظام الإيراني، والظلم والعدوان من شرطتهم، والأحكام القضائية الفاجرة، ورجال الحكم الذين لا يقبلون المعارضة! تغطية هزليَّة!
لكنها تظل - برغم كل شيء - تغطية!
إذ يبدو أن الجزيرة وإخوانها من المنصات الإعلامية نائمة ولا تدري بالهياج الحادث على بعد كيلو مترات من قطر!

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

إن كان ثم تغيُّرٌ في فكري الخاص خلال الأشهر الماضية، فتبدُّل نظرتي للخطاب الإسلامي الذي يتحدث عن خطر الإرجاء، وأنه أكبر داهية ابتُليَّ بها المُسلمون في هذا الزمان.

كنت أتوهَّمُ أن هذا الخطابَ مُبالِغٌ، لكن الأحداثَ المتوالية، منذ حالة الهالكتان المرتدتان سارة حجازي ونورهان نصَّار، ثم مؤخرا حالات بلال فضل ومحمد أبو الغيط وعلاء عبد الفتاح، وجميعهم واقعون في ردَّة وخصومة مفتوحة وصريحة مع الشرائع الإسلامية، ويتفقون جميعا على أن شرائع الإسلام ثقافية مرتبطة بزمانها، وليست مطلقة مؤبدة، وأن أكثرها شرائع أقل احتراما للإنسان من القوانين العلمانية المعاصرة، إضافة لدعم بعضهم اللوطيَّة صراحةً، مثل علاء عبد الفتاح.

وكل واحد من أولئك له مقالات وندوات، ومرئيات ومدونات، امتلأت بذم الشرع وأهله، والإلحاد في الإسلام وعلمه، وبث كل ذلك في ملايين الناس، فكانوا دعاةً وما زالوا، فما الردَّة بعد كل هذا؟

لقد صدَّقت الخطوب والأحداث صحة مقالة ألباءُ المُسلمين في دعواهم، أن الإرجاء هو أخطر ما يُفسِد المسلمين حاليا، فهو لازم دين الإنسانوية العلماني، وكذلك هو ناتجه، أي أنه مدخلها ومخرجها معا، ولا أشيع من الإنسانوية تنكيلا في المسلمين وإفسادا لهم في عصرنا.